الفساد: سُمُّ الأمم القاتل

pexels-tima-miroshnichenko-6266771-scaled الفساد: سُمُّ الأمم القاتل

مسؤولية الدول وضمير الشعوب

في عصر باتت فيه الدول تتسابق على الريادة التكنولوجية وتوسيع رقعة نفوذها الاقتصادي، يقف الفساد كأخطر ما ينخر في جسد الأمم ويكبح مسيرتها نحو العدل والازدهار، تقرير “مؤشر مدركات الفساد لعام 2024” الصادر عن منظمة الشفافية الدولية كشف عن واقع صادم: أكثر من ثلثي دول العالم فشلت في تجاوز نصف العلامة (50/100)، ما يعني أن فساد القطاع العام ما يزال متجذرًا في أغلب البُنى السياسية والإدارية حول العالم.

واقع يُثير القلق

الدول التي تحظى بأعلى درجات النزاهة ليست صدفة في مقدمة الركب الحضاري،مثل الدنمارك (90)، وفنلندا (88)، وسنغافورة (84)، هذه الدول تُجسد نماذج حية لدول صاغت مؤسساتها على أسس من الشفافية، والمساءلة، وفصل السلطات، وحرية التعبير، بالمقابل تقبع دول مثل الصومال (9)، وسوريا (12)، واليمن (13) في ذيل التصنيف، وقد صار الفساد فيها ثقافة تُنتج البؤس، وتقتل الأمل، وتدمر مُقومات الدولة من الداخل.

العرب بين الوعود والواقع

المشهد العربي يعكس تناقضًا صارخًا، فدول مثل الإمارات(68) وقطر(59) تبذل جهودًا لتقنين العمل الحكومي وبناء أنظمة رقابة متطورة، بينما تعاني دول مثل لبنان(22)، والسودان(15) من فوضى إدارية، وتدخلات سياسية، وغياب إرادة الإصلاح، والفساد في كثير من الدول العربية ليس مجرد ممارسة سرية، بل جزء من هيكل السلطة، والتعيينات تُبنى على المحسوبية، والعقود تمنح عبر الرشاوى، وموارد الدولة تُهدر بلا حسيب.

أمة القرآن وقيم النزاهة: أين الخلل؟

ما يثير الدهشة هو تدنّي درجات النزاهة في عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، رغم أن الإسلام دين يُحرّم الرشوة ويُعلي من شأن العدل والمساءلة، فلماذا الفساد ينتشر إذن؟ الإجابة ليست في الدين، بل في غياب الدولة المؤسسية، عندما تُفرغ المؤسسات من محتواها، ويُختزل الدين في الشعارات دون ترجمة عملية، يصبح الطريق ممهدًا للانحراف، ويُضرب القانون، ويُعطّل القضاء، ويُخرس الإعلام.

ولادة نظام جديد: حلول لا بد منها

الحل ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب حُسن التشخيص وجرأة العلاج، ومن أبرز ما يجب تبنّيه:

1. إشراف الشعب لا الحاشية

لا يُعقل أن تُترك المناصب العليا كوزير المالية أو محافظ البنك المركزي دون رقابة شعبية أو إعلامية، يجب فرض آليات اختيار علنية، تُبث عبر الإعلام، وتُشرف عليها هيئات مستقلة، ويُشترط فيها: الكشف عن الذمم المالية علنًا، وتحديد مدة المنصب بسقف زمني، ومنع التعيين العائلي أو الحزبي.

2. رقابة إلكترونية صارمة

يجب تسخير الذكاء الاصطناعي والرقابة الرقمية لتعقّب الأموال والعقود الحكومية، والتحويلات المشبوهة، والمناقصات الموجهة، والتلاعب في الميزانيات، كلها يمكن كشفها عبر أنظمة مراقبة في الوقت الحقيقي.

3. إعادة هيبة القضاء

لا عدالة دون قضاء مستقل، لهذا يجب تحصين القضاة من الترهيب أو الرشوة، وإنشاء محاكم متخصصة بالفساد، ومنح المواطنين الحق في التبليغ دون خوف.

4. إعلام شجاع لا إعلام تبرير

لا بد من حماية الإعلام الجاد من التكميم والتهديد، فالإعلام هو عين الشعب، وبدونه يتحوّل الفساد إلى عُرف لا يُناقش.

5. تربية الجيل الجديد على النزاهة

المعركة طويلة، ويجب أن تبدأ من المدرسة، النزاهة ليست مادة دراسية، بل روح تُغرس في الطفل منذ صغره في علاقته بالمال، وفي احترامه للأنظمة، وفي رفضه للغش مهما كان مبرره.

الفساد يُمهّد للطغيان

وأخيرًا وليس آخِرًا من لا يُحارب الفساد، سيجد نفسه بعد سنوات يُحارب الجريمة المنظمة، والتطرف، والانهيار الاقتصادي، فالفساد لا يصنع فقط ثراءً غير مشروع، بل يصنع دولًا هشة، ومجتمعات يائسة، وشعوبًا تفقد ثقتها في الدولة، وإذا أرادت أمة أن تصعد، فلا بد أن تبدأ من هناك من قلع الفساد من الجذر، وبناء دولة مؤسسات، لا دولة شعارات.

موقع إرسال