

رغم أن القراءة تُعد من أهم الأنشطة التي تطور العقل وتفتح آفاق الفكر، إلا أن كثيرًا من المجتمعات العربية تعاني من ضعف الإقبال على الكتب، خاصة خارج الإطار الدراسي أو المهني، فهل نحن لا نحب القراءة حقًا؟ أم أن هناك ظروفًا وظواهر نفسية وثقافية تفسر هذا العزوف؟
أولًا: الجانب النفسي: القراءة كعادة لا كواجب
في كثير من البيئات العربية، يُنظر إلى القراءة على أنها واجب دراسي أو وسيلة للحصول على علامات أو شهادات، هذه النظرة تجعل العلاقة مع الكتاب علاقة “مصلحة مؤقتة”، لا علاقة شغف دائم، فالطفل العربي غالبًا ما يرتبط الكتاب في ذهنه بـ”الواجب المنزلي”، وليس بـ”المتعة” أو “الفضول”، لكن علم النفس يؤكد أن القراءة تُبنى كـعادة شخصية، لا تنشأ من الإلزام، بل من التكرار والارتباط الإيجابي، وكلما زاد شعور الفرد بأن القراءة متعة لا عبء، أصبح أكثر استعدادًا للقراءة بشكل مستمر.
ثانيًا: دور التربية الأسرية: البداية تبدأ من البيت
الأسرة هي البيئة الأولى التي تشكل علاقة الطفل مع المعرفة، فعندما يكبر الطفل في بيت يرى فيه والده يقرأ جريدة، وأمه تفتح كتابًا، ورفوف المنزل تحوي كتبًا لا غبارًا، فإن القراءة تصبح جزءًا طبيعيًا من “الحياة اليومية”، لكن في كثير من البيوت العربية(إلا من رحِم ربي)، تغيب هذه الثقافة، وتُختزل التربية المعرفية في “المدرسة فقط”، في حين أن التربية على حبّ المعرفة تبدأ من البيت كقراءة القصص للأطفال قبل النوم، وزيارات دورية للمكتبات، وتخصيص وقت للقراءة الجماعية، كل هذه عادات أُسرية صغيرة لكنها تصنع شغفًا دائمًا.
ثالثًا: البيئة الاجتماعية والثقافية: من يُشجّع على القراءة؟
نادرًا ما نجد في مجتمعاتنا ثقافة شعبية تشجع على القراءة، فالتلفاز، ووسائل التواصل، والمحيط العام يروّج للمعلومة السريعة والمحتوى القصير، بينما القراءة تحتاج وقتًا وصبرًا، وكذلك المدرسة والإعلام وحتى الأصدقاء، إذا لم يكونوا جزءًا من ثقافة تحفز على القراءة، يصعب أن ينشأ الفرد في بيئة ترى الكتاب رفيقًا وليس عبئًا.
رابعًا: النظرة الاجتماعية السلبية: الذي يقرأ الكثير يبدو شكله غريب!!
في بعض الأوساط الاجتماعية، يُنظر للقراء وكأنهم منعزلون أو غريبو الأطوار، وكأن شغفهم بالقراءة يُبعدهم عن الواقع أو يجعلهم غير اجتماعيين، وقد يُوصف الشخص القارئ بأنه “معقد” أو “يحب يتفلسف” أو حتى “ما عنده سالفة”، هذه الصورة النمطية تؤثر سلبًا، خصوصًا على الشباب والمراهقين، الذين يبحثون عن القبول في المجتمع، فيتجنب البعض القراءة في الأماكن العامة أو الحديث عن الكتب التي يقرأونها خوفًا من السخرية أو التهميش، وفي بيئة لا تُكافأ فيها المعرفة، ولا تُقدّر فيها العقول، من الطبيعي أن يتراجع فيها حب القراءة.
خامسًا: الواقع المعاصر: هل سرقنا “الزمن الرقمي” من الكتب؟
من الطبيعي أن يقلّ وقت القراءة في ظل الترفيه الفوري والمحتوى السريع الذي توفره المنصات الرقمية، لكن ليس طبيعيًا أن تُستبدل القراءة كليًا، فالقراءة لم تعد تنافس وسائل الترفيه فقط، بل تنافس انتباه الإنسان نفسه، الذي بات مشتتًا ومعتادًا على التنقل بين محتويات سطحية بدلاً من التعمق في فكرة واحدة، والحل ليس في “الانفصال الرقمي”، بل في “دمج القراءة” ضمن أسلوب حياة جديد، حتى لو كان رقميًا (مثل كتب إلكترونية، بودكاست معرفي، تطبيقات قراءة).
هل نكره القراءة؟ أم أننا فقط لم نُدرّب عليها؟
ليس صحيحًا أن العربي “لا يحب القراءة”، بل الأدق أن نقول: لم نُربَّ على حبها، ولم تُوفّر لنا بيئات مشجعة عليها، ولم نحصل على نماذج تربطنا بالكتاب بوصفه صديقًا، لا عبئًا،القراءة لا تبدأ من المدرسة، بل من الأسرة، والبيئة، والثقافة العامة.
موقع إرسال