
هل تعاني مدينتك من مشكلة التبول العشوائي في الشوارع؟
تتزايد ظاهرة التبول في الأماكن العامة بشكل ملحوظ في العديد من المدن الكبرى حول العالم، لتتحول من مجرد مشكلة نظافة إلى أزمة حضرية تؤثر على صحة، وسلامة، وجودة حياة السكان.
هذه الظاهرة التي تظهر في شوارع لندن وباريس وأمستردام وسان فرانسيسكو وغيرها، تُظهر فجوة في الخدمات العامة والوعي الاجتماعي، ما يجعل من الضروري البحث عن حلول متكاملة تعالج هذه الظاهرة من جذورها.
أسباب التبول العشوائي: أكثر من مجرد عادة سيئة
تعود أسباب التبول في الأماكن العامة إلى عوامل متعددة ومتداخلة، ليست كلها مرتبطة بتعاطي الكحول أو المخدرات، أحد الأسباب الرئيسية هو غياب المراحيض العامة النظيفة والمتاحة، خصوصًا في مناطق الحياة الليلية والمناطق السياحية، إذ يعاني السكان والزوار أحيانًا من عدم وجود أماكن ملائمة يلجؤون إليها في أوقات الذروة، ما يدفع البعض إلى ارتكاب هذا السلوك القذر.
إلى جانب ذلك تلعب الظروف الاجتماعية مثل التشرد، والمشاكل الصحية النفسية دورًا بارزًا في دفع بعض الأشخاص للتبول في الشوارع، ما يجعل الأمر أعمق من مجرد تصرف فردي غير لائق، كما أن ثقافة الاستهانة بالنظافة العامة وقلة الوعي البيئي يزيدان من تفاقم المشكلة، خاصة في المناطق التي تشهد ازدحامًا ليليًا أو فعاليات جماهيرية.
تجارب المدن الكبرى في مكافحة التبول العشوائي:

في حي سوهو بلندن الذي يضم العديد من الحانات والمسارح والمطاعم، لجأت بلدية وستمنستر إلى استخدام طلاء مضاد للبول يعكس البول على المتبول، مما يخلق تجربة غير مريحة تدفع المخالفين للبحث عن بدائل، هذه التجربة التي انطلقت في عشر نقاط استراتيجية في الحي، أظهرت نتائج فعالة في تقليل التبول العشوائي، حسب ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية BBC في يناير 2023.
أما في مدينة هامبورغ الألمانية فقد كانت المبادرة أكثر مجتمعية، إذ تعاون السكان والسلطات المحلية لتمويل طلاء الجدران بمواد مقاومة للبول وكتابة عبارات تحذيرية على الجدران، مثل “هذا الجدار سيرد البول عليك”، هذه الخطوة عززت الشعور بالمسؤولية المجتمعية، ووفرت بيئة نظيفة أكثر استدامة، كما ذكرت مجلة جي كيو (GQ) الألمانية.
وفي سان فرانسيسكو الأمريكية تواجه السلطات تحديات معقدة بسبب ارتفاع معدلات التشرد والإدمان، وتُقدر تكلفة تنظيف الشوارع من البول العشوائي بعشرات الملايين سنويًا، مما دفع البلدية إلى ابتكار حلول مثل المراحيض المتنقلة، والطلاءات المقاومة للبول، إلا أن هذه الإجراءات وحدها لا تكفي، حيث يتطلب الأمر تدخلات اجتماعية لمعالجة الأسباب الجذرية، وفقًا لتقارير وكالة الأسوشيتد برس (Associated Press).
كما شهدت باريس وأمستردام مبادرات بيئية متطورة، حيث تم استخدام مراحيض ذكية تُحوّل البول إلى سماد طبيعي يُستخدم في الحدائق والمساحات الخضراء، ما يساعد في تقليل التلوث وتحقيق الاستدامة البيئية، هذه التقنيات المعروفة باسم Uritrottoirs (مراحيض) أو GreenPee (البول كسماد) أثارت اهتمامًا واسعًا باعتبارها حلولًا مبتكرة تراعي البيئة، بحسب تقرير يورونيوز جرين (Euronews Green) في 2023.
أسباب استمرار الظاهرة والتحديات التي تواجهها المدن:
تستمر ظاهرة التبول في الأماكن العامة لعدة أسباب، بعضها يتعلق بالبنية التحتية ونقص المرافق الصحية، وبعضها الآخر يعكس تحديات اجتماعية عميقة، بحسب صحيفة ذجارديانس (The Guardian) البريطانية فإن غياب المراحيض العامة النظيفة والمجهزة هو العامل الرئيسي الذي يدفع الكثيرين للجوء إلى التبول في الشوارع.
كما تلعب العوامل الاجتماعية مثل التشرد، والإدمان، والاضطرابات النفسية دورًا مهمًا، حيث يُعد هؤلاء الأفراد الأكثر عرضة للانخراط في هذا السلوك.
من ناحية أخرى ضعف التوعية العامة ونقص الثقافة المجتمعية في التعامل مع الفضاءات العامة يؤثر على استمرار الظاهرة، ففي بعض المجتمعات، يُنظر إلى التبول العشوائي كأمر بسيط أو لا يستحق العقاب، ما يزيد من صعوبة فرض النظام والنظافة، كما أن تقصير السلطات في فرض القوانين وتطبيق الغرامات بفعالية، يؤدي إلى إهمال المشكلة واستمرارها.
وفقًا لأستاذ التخطيط الحضري الدكتور بيتر فان دير بيرغ من جامعة أمستردام، فإن المشكلة ليست فقط في تصرفات الأفراد، بل في السياسات الحضرية التي فشلت في توفير بيئة صحية وآمنة تلبي الاحتياجات الفعلية للسكان، فالمدن التي لا تهتم بالبنية التحتية للمرافق الصحية تكون مدنًا تدفع سكانها ضمنيًا لارتكاب هذا السلوك، حتى لو لم يكن هناك نية سيئة.
الحلول الممكنة: مواجهة شاملة تبدأ من الإنسان وتنتهي بالمدينة:
لمعالجة ظاهرة التبول في الأماكن العامة بشكل فعّال ومستدام، لا يكفي الاكتفاء بالعقوبات أو الطلاء المقاوم للبول، بل لا بد من تبني نهج حضري شامل يُعالج جذور المشكلة قبل مظاهرها.
تبدأ الخطوة الأولى بضرورة توفير مراحيض عامة آمنة، ونظيفة، ومجانية في النقاط الاستراتيجية من المدن، لا سيما في مناطق الحياة الليلية والمهرجانات، حيث تزداد الحاجة الملحّة إلى مرافق صحية متاحة على مدار الساعة، كما ينبغي أن ترافق هذه البنية التحتية وسائل تكنولوجية ذكية مثل: المراحيض ذاتية التنظيف، والمزوّدة بإضاءة وحساسات حركة لتعزيز الأمان والراحة.
وعلى البلديات أن تشدد من الغرامات المفروضة على من يرتكبون المخالفة، ولكن دون أن تهمل الجانب التوعوي، إذ أثبتت التجارب أن الحملات الإعلامية والإعلانية التي تربط بين السلوك الفردي والنظافة العامة تترك أثرًا طويل الأمد في وعي الناس، خصوصًا حين تُعرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات في المواصلات العامة.
ولأن بعض حالات التبول في الأماكن العامة تنبع من أوضاع اجتماعية هشة كالتشرد أو الإدمان، فإن الحل لا يكون بردع الجسد فقط، بل بإعادة دمج هؤلاء الأفراد في المجتمع عبر توفير المأوى، والعلاج، والدعم النفسي والاجتماعي، وهي خطوات تؤدي في نهاية المطاف إلى مدينة أكثر عدلاً ونظافة.
كما أن إشراك المجتمع المحلي من خلال البلاغات الفورية، والمبادرات الأهلية، والمراقبة المجتمعية يساهم في صناعة وعي جماعي رافضًا للسلوكيات غير الحضارية، وهو ما يحوّل الحل من مجرد إجراء إداري إلى ثقافة راسخة.
ظاهرة التبول في الأماكن العامة تكشف عن خلل متراكم في البنية التحتية والخطط الحضرية والثقافة العامة، ومدن المستقبل التي تطمح إلى بيئة نظيفة وصحية وآمنة يجب أن ترى الفضاء العام كإمتداد للكرامة الفردية لا مجرد مساحة مفتوحة.
أخيرًا من المهم أن تتبنى المدن سياسات تصميم حضري تجعل من النظافة جزءًا من جماليات المكان، فكلما شعر المواطن بأن الفضاء العام يمتلكه ويحترمه، قلّ ميله لإلحاق الضرر به، فالحل يبدأ من تصميم ذكي، مرورًا بسياسات عادلة، وصولًا إلى وعي جماعي قادر على تحويل السلوك الفردي إلى مسؤولية مجتمعية حقيقية.
المصادر:
- BBC News – “Westminster trials anti-pee paint to tackle street urination”, Jan 2023
- GQ Magazine – “Hamburg’s Walls Are Fighting Back Against Public Peeing”, 2015
- Associated Press – “San Francisco fights back against public urination”, 2022
- Euronews Green – “From anti-pee paint to hemp urinals: Europe’s fight against public urination”, Jan 2023
- The Guardian – “Why do so many cities smell of urine?”, 2022
- Urban Studies Journal – Peter van der Berg, “Urban public behavior and spatial design”, 2021
- Euronews – “Shame campaign targets public urination in Chester”, 2023
موقع إرسال