مفهوم الفجوة الرقمية وتطورها العالمي

تشير البيانات الحديثة من تقرير البنك الدولي لعام 2024 إلى تطور نوعي في فهم الفجوة الرقمية، إذ لم تعد تُقاس فقط بعدد الأفراد المتصلين بالإنترنت، بل اتسعت لتشمل جودة الاتصال، وسرعة الإنترنت، وتكلفة الخدمة الرقمية، إضافة إلى المهارات الرقمية ومردود التكنولوجيا على الاقتصاد والمجتمع.

الفجوة لم تعد تقنية فحسب، بل أصبحت فجوة في “القيمة الرقمية” نفسها، أي في مدى قدرة الأفراد والدول على تحقيق نفع اقتصادي واجتماعي فعلي من التكنولوجيا الحديثة.

الاتصال بالإنترنت في الدول المتقدمة مقابل الدول النامية

تتجاوز نسبة السكان المتصلين بالإنترنت في الدول المتقدمة حاجز 90%، بينما لا تصل إلى 30% في الدول منخفضة الدخل، و52% فقط في الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى، ورغم ارتفاع نسبة التغطية بالشبكات الخلوية، فإن الاستخدام الفعلي والمثمر للإنترنت يبقى محدودًا في العديد من البلدان النامية.

مما يعكس فجوة في الاستخدام الرقمي وليس فقط في الاتصال، بينما تتيح الدول المتقدمة لمواطنيها سرعات تنزيل تفوق 100 ميغابت/ثانية، ولا تتعدى السرعة 10 ميغابت في الدول الفقيرة، خاصة في المناطق الريفية، ما يؤدي إلى إقصاء رقمي فعلي من الاستفادة من تطبيقات الجيل الجديد مثل الخدمات السحابية والذكاء الاصطناعي.

البنية التحتية الرقمية وتفاوت السرعات والقدرات

يكشف تقرير البنك الدولي عن فجوة حادة في البنية التحتية الرقمية، حيث تغطي شبكات الألياف البصرية والجيل الخامس أكثر من 80% من سكان الدول الغنية، في حين لا تصل هذه النسبة إلى 10% في الدول الفقيرة.

النطاق الترددي الدولي للفرد الواحد يمثل أبرز معوّق، إذ يزيد في الدول الغنية بأكثر من 300 مرة عن نظيره في الدول منخفضة الدخل، ما ينعكس سلبًا على كفاءة وأداء الخدمات الرقمية.

هذا التفاوت يجعل من الصعب على الدول النامية الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، أو حتى التعليم الرقمي عالي الجودة.

تكلفة الإنترنت والقدرة على تحمله في الدول الفقيرة

تُعد تكلفة الإنترنت أحد أبرز عوائق الشمول الرقمي في الدول النامية، فبينما لا تتجاوز تكلفة 1 غيغابايت 0.5% من متوسط دخل الفرد الشهري في الدول المتقدمة، فإنها تتجاوز 5% في أكثر من 45 دولة نامية، متجاوزة بذلك الحد المقبول الذي توصي به الأمم المتحدة.

هذه التكلفة المرتفعة تعني أن شريحة واسعة من السكان، خصوصًا في المناطق الريفية والفقيرة، لا تستطيع تحمّل تكاليف الاتصال، ما يعمق من الفجوة الرقمية ويزيد من الإقصاء التكنولوجي.

الاقتصاد الرقمي: وزن مختلف بين الشمال والجنوب

يبرز التقرير الفارق الهائل في مساهمة الاقتصاد الرقمي بين الدول، ففي حين يسهم الاقتصاد الرقمي بنسبة 7 إلى 9% من الناتج المحلي في الدول الغنية مدعومًا باستثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، فلا تتجاوز هذه النسبة 2% في الدول النامية.

كما أن نسبة التوظيف المرتبطة بالقطاع الرقمي في الدول المتقدمة تبلغ 6%، مقابل 1% فقط في نظيراتها الفقيرة، ولا تتجاوز حصة الدول النامية مجتمعة 5% من إجمالي الاستثمار التكنولوجي العالمي، وهو ما يعكس غياب العدالة الرقمية وضعف القدرة على المنافسة في الاقتصاد المعرفي.

تبني الحكومات والشركات للتكنولوجيا الرقمية

في الدول المتقدمة تستخدم معظم الشركات الكبرى التجارة الإلكترونية، وتُوظّف الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وتوفر الحكومات خدمات هوية ودفع رقمي شاملة.

أما في الدول النامية فلا تتجاوز نسبة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تبيع عبر الإنترنت 20%، كما أن 18% فقط من الحكومات تمتلك بنية تحتية رقمية عامة متكاملة، ما يضعف كفاءة القطاع العام ويحد من قدرة القطاع الخاص على النمو الرقمي، ويؤدي إلى بطء كبير في التحول الرقمي الشامل.

دروس من دول نامية نجحت رقمياً

رغم هذا التفاوت يبرز التقرير أمثلة ناجحة من دول نامية استطاعت الاستفادة من الاقتصاد الرقمي مثل الهند والفلبين والمغرب، التي تمثل صادراتها الرقمية أكثر من 15% من إجمالي صادراتها.

كما أن دولاً مثل البرازيل وتوغو والهند تمكنت من خفض كلفة التحويلات الاجتماعية باستخدام بنى رقمية عامة (Digital Public Infrastructure)، مما يبرهن على إمكانية تحقيق تأثير اقتصادي ملموس عبر استثمار حكيم في البنية الرقمية.

السياسات المقترحة لسد الفجوة الرقمية

يُوصي التقرير بضرورة تطوير سياسات رقمية متكاملة تشمل تحسين تغطية شبكات الألياف البصرية، وتوسيع نقاط تبادل الإنترنت، وتنظيم مزادات الطيف الترددي بطريقة عادلة، كما يدعو إلى تقديم دعم مالي للأسر الفقيرة لتقليل تكلفة الاتصال، ودمج المهارات الرقمية في مناهج التعليم، وإنشاء مراكز مجتمعية للتدريب الرقمي.

ويشدد التقرير على أهمية إنشاء بنية تحتية رقمية عامة ترتكز على التشغيل البيني، وتحقيق حماية البيانات والخصوصية، مع إصدار تشريعات مرنة ومحايدة تكنولوجيًا تشجع على الابتكار والاستثمار في مراكز بيانات خضراء.

خلاصة تقرير البنك الدولي حول التفاوت الرقمي العالمي

يكشف التقرير بوضوح أن الفجوة الرقمية لم تعدفقط فجوة تقنية، بل باتت فجوة تنموية وهيكلية تؤثر على فرص النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص.

أما سد الفجوة الرقمية فلم يعد ترفًا بل ضرورة تنموية ملحّة تتطلب استراتيجيات رقمية شاملة تبدأ من التعليم والبنية التحتية، وتصل إلى التشريعات وتمكين القطاع الخاص.

السياسات الذكية وحدها القادرة على دمج التكنولوجيا ضمن منظومات الإنتاج والخدمات بشكل عادل، وهي كفيلة بتحقيق تحول رقمي شامل يضمن النمو المستدام لجميع الدول، لا سيما الفقيرة منها.

المصدر : تقرير البنك الدولي 2024

موقع إرسال