
في مشهدٍ تكنولوجيٍّ يتسارع فيه الابتكار بشكل غير مسبوق، تبرز الحوسبة الكمومية كركيزة أساسية للثورة الصناعية القادمة، بما تمتلكه من قدرات على قلب موازين الأداء الحاسوبي العالمي، وتقف هذه التقنية على مفترق طرق بين الفيزياء، والهندسة، والرياضيات، وتُعدُّ البِتات الكمومية (Qubits) نواتها الصلبة.
من الولايات المتحدة إلى الصين، ومن أوروبا إلى الخليج العربي، تتسابق الدول في هذا المجال الاستراتيجي الذي لا يقتصر على الريادة العلمية، بل يمتد إلى الأمن السيبراني، والاقتصاد، والذكاء الاصطناعي.
ما البِتات الكمومية؟ وما الذي يجعلها استثنائية؟
البِت الكمومي يَمنح الحواسيب الكمومية طابعًا مختلفًا تمامًا عن نظيراتها التقليدية، فعلى عكس البِتات الثنائية التي تأخذ فقط قيمتي “0” أو “1”، يمكن للبت الكمومي أن يتواجد في مزيج تراكبي من الحالتين، ويُضاف إلى ذلك ظاهرة التشابك الكمومي، التي تسمح لبتات متعددة بأن تتشارك في الحالة الكمية مهما بعدت المسافة بينها، ما يتيح إمكانات معالجة غير مسبوقه.
هذا الدمج بين التراكب والتشابك يجعل من الحوسبة الكمومية مرشحة لتجاوز أعقد أنظمة الحوسبة الفائقة الحالية.
التطور التاريخي والتقني للحوسبة الكمومية
منذ ظهور مفهوم البِت الكمومي على يد الفيزيائي بنيامين شوماخر عام 1992 دخل العالم تدريجيًّا في مرحلة ما يُعرف الآن بثورة الحوسبة الكمومية، وأتى عام 1994 ليشكّل لحظة محورية بفضل خوارزمية شور التي أظهرت كيف يمكن للحواسيب الكمومية كسر أنظمة التشفير التقليدية.
بعد أربع سنوات تم تنفيذ أول خوارزمية كمومية فيزيائيًّا، ممّا مهّد الطريق لبناء معالجات كمومية حقيقية، بحلول 1999 أطلقت شركة NEC أول كمبيوتر فائق التوصيل، مما دلّ على إمكانية تصنيع هذه الأنظمة.
الولايات المتحدة: منظومة كمومية متعددة الأقطاب
تمتلك الولايات المتحدة النظام الأكثر تطورًا في بيئة الحوسبة الكمومية حيث تتكامل جهود الحكومة مع القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية.
ومن بين الأمثلة البارزة تبرز شركة IBM التي أطلقت في 2023 نظام Quantum System Two المعياري، وكذلك شركة Google التي أعلنت في 2024 عن معالج Willow بقدرات تصحيح كمومي مذهلة، أما Microsoft فقدّمت شريحة Majorana 1 في 2025 كخطوة نحو كمومية طوبولوجية مستقرة.
كل هذه المشاريع تنسجم ضمن إطار الاستراتيجية الوطنية للكم، التي تُشرف عليها وكالات حكومية ذات بعد أمني وعلمي.
الصين: هندسة التفوق عبر الكم والفضاء
لم تتوانَ الصين عن ضخ استثمارات هائلة في تطوير البنية التحتية الكمومية، حيث تجاوزت ميزانية دعمها 15 مليار دولار، وقد حققت إنجازًا استثنائيًّا بإطلاق القمر الصناعي ميكيوس عام 2016، والذي مهّد لتجارب رائدة في الاتصالات الكمومية الآمنة.
كما تميزت شركات محلية مثل Origin Quantum بتطوير أول كمبيوتر كمومي فائق التوصيل في البلاد، ما يعكس انتقال الصين من الاستيراد إلى التصنيع المحلي عالي التقنية، وتركيز الصين ينصبّ حاليًّا على الاستخدامات السيادية للتقنية، مثل الأمن السيبراني والتشفير العسكري.
المملكة المتحدة: نموذج الاقتصاد الممكن بالكم
أطلقت بريطانيا برنامجًا استراتيجيًّا للتحول إلى اقتصاد مدعوم بتكنولوجيا الكم، مدعومًا بميزانية قدرها 2.5 مليار جنيه إسترليني، يرتكز هذا البرنامج على مؤسسات مثل البرنامج الوطني لتقنيات الكم (NQTP) والمركز الوطني للحوسبة الكمومية (NQCC)، بالتوازي تقود شركات ناشئة مثل Oxford Ionics الابتكار في تقنيات الأيونات المحصورة، مما يمنح بريطانيا ميزة تنافسية في سوق متنوع ومتسارع.
ألمانيا: البحث العميق والالتزام بالبنية التحتية
تستثمر ألمانيا ثلاثة مليارات يورو في مشروع استراتيجي لبناء كمبيوتر كمومي عالمي بحلول 2026، مستندة إلى منظومة بحثية تشمل مؤسسات مثل Forschungszentrum Jülich ومعهد ماكس بلانك.
بالإضافة إلى ذلك أبرمت اتفاقيات تعاون علمي مع الولايات المتحدة، مع خطط لبناء شبكة ألياف بصرية كمومية وطنية، هذا الالتزام بالبنية التحتية يعكس فهمًا عميقًا من ألمانيا لدور الكم في اقتصاد المعرفة.
الاتحاد الأوروبي: وحدة بحثية بهيكل تمويلي قوي
أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة Quantum Flagship في عام 2018، بهدف توحيد جهود البحث الكمومي بين دوله، مع تخصيص مليار يورو كموازنة أساسية، إجمالي الاستثمار الأوروبي العام في هذا المجال يصل إلى سبعة مليارات يورو، وتركّز المفوضية على مجالات مثل تطوير رقائق كمومية، وتعزيز الاتصال بين المختبرات عبر شبكات كمومية عالية الأمان.
الدول العربية: دخول استراتيجي مدفوع بالشراكات والتطبيقات
دخلت السعودية السباق الكمومي من بوابة التعاون الدولي، حيث تعاقدت مع شركة Pasqal الفرنسية لتثبيت أول كمبيوتر كمومي بسعة 200 كيوبت، مدعومًا ببرامج حكومية في KACST وPSATRI.
الإمارات عبر معهد TII تطور مشروعها المحلي الأول للحوسبة الكمومية، وتبني شبكة من الشراكات مع شركات متخصصة، وقطر أنشأت مركزًا وطنيًّا في جامعة حمد بن خليفة ووقعت اتفاقية بمليار دولار مع Quantinuum.
أما مصر فبدأت بخطوات أكاديمية وتوعوية تقودها مؤسسات رسمية مثل مركز دعم اتخاذ القرار، فيما يشكّل مركز SESAME في الأردن منصة تعاونية للبحث العلمي الإقليمي.
خاتمة استراتيجية
الحوسبة الكمومية تٌعد ضرورة استراتيجية، والعالم يتّجه نحو عصر تُعَرّف فيه السيادة العلمية بالقدرة على معالجة المعلومات على المستوى الكمومي، الدول التي تستثمر الآن بذكاء، تُحجز لها مقاعد متقدمة في خريطة الاقتصاد العالمي القادمة.
على الدول العربية وقد بدأت بعضها بخطوات جريئة، أن تعزز جهودها عبر تطوير القدرات المحلية، وتمويل البحث الأكاديمي، وتبني سياسات مستدامة تُواكب سرعة التحول العالمي.
المصادر الموثوقة:
- وزارة الطاقة الأمريكية: https://www.energy.gov
- مركز بلفر، جامعة هارفارد: https://www.belfercenter.org
- مركز ميركس للدراسات الصينية: https://merics.org
- رويترز: https://www.reuters.com
- Arab News: https://www.arabnews.com
- TII الإمارات: https://www.tii.ae
- موقع u.ae الرسمي: https://u.ae
- جامعة HBKU: https://www.hbku.edu.qa
- مركز دعم القرار المصري: https://idsc.gov.eg
- Barron’s: https://www.barrons.com
- STCN الصينية: https://www.stcn.com
- CNIPA: https://www.cnipa.gov.cn
- موقع الحكومة الصينية: https://www.gov.cn
- موقع The Quantum Insider: https://thequantuminsider.com
موقع إرسال